فصل: علم الكتاب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المعجزة الكبرى القرآن



.علم الكتاب:

162 - قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43] فقد جعل الله سبحانه وتعالى - من عنده علم الكتاب وهو القرآن الكريم الذي نزل على رسوله الأمين شهادته بجوار شهادة الله سبحانه وتعالى، وأيّ شرف أعظم من شرف علم الكتاب بعد هذا، وأيّ مقام أعلى من مقام علم الكتاب الكريم، إنه إذًا مقام عظيم، وهو مشتق من ذات العليم، ولا بُدَّ لهذا أن يكون علم الكتاب خطيرًا عظيمًا، وأن يكون كبيرًا عزيزًا، وأن يكون واسعًا بمقدار ما تتسِّع له طاقة البشر من علوم، وأن العلماء الذين تقترن شهادتهم بشهادة الله تعالى والملائكة هم العلماء بالكتاب المذكورون، الفاهمون لمراميه ومغازيه، العاملون به، فقد قال الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18] فأولوا العلم الذين تقترن شهادتهم بشهادة الله والملائكة هم أولوا العلم بالكتاب، وأولوا العلم بالكتاب هم العلماء الذين ذكر الله سبحانه وتعالى - أنه لا يخشى الله غيرهم؛ إذ قال سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
هذه مكانة العلم القرآني كما صرَّحت العبارات السامية عن الله سبحانه وتعالى، فما هذا العلم الذي يعلو بصاحبه إلى هذا المقام الأسمى، والمنزلة العليا؟
نجيب عنه بجوابين: أحدهما فيه إجمال، والثاني فيه بعض التفصيل.
أما أولهما: فنقول: إنه علم النبوة، أي: علم الرسائل الإلهية، فإنَّ القرآن الكريم اشتمل فيما اشتمل عليه لبّ الرسالة الإلهية وهو التوحيد، وقد قال تعالى في ذلك: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى: 13]، وإنَّ القرآن ذكر كل الرسالات التي سبقته، وما لم يذكره بالبيان ذكره بالإشارة الواضحة، فقال تعالى: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78]، وما لم يذكر قصصه مطوي في ذكر من قصّ، فالرسالة الإلهية واحدة، والحق واحد، والدعوة إليه واحدة.
ولقد صرَّح النبي صلى الله عليه وسلم بأنَّ من يحفظ القرآن يحفظ النبوة بين جنبيه، فقال عليه الصلاة والسلام فيما يروي عنه الحسن البصري: من أخذ ثلث القرآن وعمل به فقد أخذ ثلث النبوة، ومن أخذ نصف القرآن وعمل به فقد أخذ نصف النبوة، ومن أخذ القرآن كله فقد أخذ النبوة كلها، ويروى عن عبد الله بن عمر أنه قال: (من حفظ القرآن فقد حفظ النبوة بين جنبيه)، فالقرآن فيه قبسة علم من الله تعالى.
ولقد روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا القرآن مأدبة الله، فتعلموا من مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن هو حبل الله، والنور المبين، والشفاء النافع، عصمة من تمسك به، ونجاة من اتبعه، ولا يعوج فيقوم، ولا يزيغ فيستعتب، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق عن رد، فاتلوه، فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات».
وإن هذه الآثار الواردة تدل دلالة قاطعة على أنَّ القرآن حوى علم النبوة كله، وأنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من علم النبوة إلَّا أحصاها، وأنَّ الله سبحانه وتعالى - ما فرَّط في الكتاب من شيء من علم النبوة، كما قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] مما يتعلق بالشرائع والأحكام وبيان ما يطلب من المكلف، وما به صلاحه في الدنيا، وثوابه في الآخرة؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد، لا يأتيه من بين يديه، ولا من خلفه.
163 - هذا الجواب مبنيّ على ما قرَّره الذين قرأوا القرآن من السلف الصالح، وما نقلوه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو بيان إجمالي لعلم القرآن الكريم، مبني على أنه تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم لرسالة ربه، وأنه التبليغ الخالد إلى يوم القيامة، الذي تخاطب به الأجيال بالرسالة العامة التي تعمّ الإنسانية كلها، ولا تخص عصرًا من عصورها.
ولكن لا بُدَّ من أن نعرض بالذكر ببعض التفصيل لما اشتمل عليه علم القرآن، وهذا هو الجاب الثاني الذي لا يغني فيه الإجمال الكلي عن بعض التفصيل الجزئي.
وإن الذي قرره السلف وأجمعوا عليه أنَّ القرآن الكريم فيه علم النبوة كله، وأن من علمه فقد حوى النبوة بين جنبيه.
وأوّل علوم النبوة علم الغيب، ففي القرآن علم الغيب وبيان الغيب، والغيب هو لب الإيمان، وفيه علم الحاضر الذي يدل على الغيب المستكين، فيه بيان الوحدانية، وبراهينها المستمدة من الكون، واستقامة حاله، والتي يستدل عليها بالآثار القائمة، وبما خلق الله سبحانه وتعالى.
وإن العلم بمنشئ الكون هو الفطرة الإنسانية التي لا تضل إلا بما يسيطر على العقل من أهواء، وبما يقف دون الإدراك السليم من أوهام، وبما يحيط بالعقل من غيم يمنعه من الفهم السليم، فالقرآن يزيل غياهب الضلال، ويأخذ بالشارد إلى حيث الأمن العقلي.
وإن الفلاسفة يحاولون أن يدركوا المغيب عنهم من حقيقة المنشئ، ومنهم من ضل في سبيل ذلك ضلالًا بعيدًا، ومنهم من قارب، ومنهم من باعد، ولا تجد في كلام أولئك الفلاسفة ما يهدي للتي هي أقوم، وما كان عجز الفلاسفة عن أن يدركوا الشيء الأول إلَّا في سيطرة أوهام سبقت، عكّرت على الفطرة وضللت العقل، ولنظريات ضالات قد سيطرت عليهم، وهي نظرية الأسباب والمسببات، وتوهموا أنها تنطبق على منشئ الوجود، كما هي ثابتة في العلة بين الموجودات، يتوالد بعضها من بعض، ويكون لكل شيء سبب، وهو سبب لغيره، وهكذا تتتابع الأسباب والمسببات، كل سبب يتبع سببًا، وهو نتيجة لسبب، وتوهَّموا لهذا أن الأشياء نشأت عن منشئ الوجود نشوء المعلول عن علته، والمسبّب عن سببه، وتسلسلوا في الأسباب والمسببّات حتى ضلوا ضلالًا بعيدًا، وجاءت الأديان السماوية موجهة الأنظار إلى الله تعالى خالق السماوات والأرض على غير مثال سبق. وهو المبدع، وهو الفاعل المختار، وهو القادر على كل شيء ولا يخرج عن واسع علمه شيء. ولا عن محيط قدرته خارج، يفعل ما يشاء يختار.
وقرر القرآن تلك الحقيقة التي هي هدف العقول، وأخرجها من تيه الضلال إلى الحق القديم.
وسيقت الأدلة على ذلك من الكون وتنوعه، وأنَّ المقرّر عقلًا أن السبب يكون من جنس المسبب، وزيكون كهيئته لا يختلف عنها، وأنَّ الاختلاف إنما يكون لأمر آخر لا بمجرّد السببية، فيبيّن القرآن الكريم تنوع الأشياء وتنوع الأحوال، اقرأ قوله تعالى:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا، ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا، وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا، لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا، وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} [الفرقان: 45 - 50].
{وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا، وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} [الفرقان: 53، 54].
وإنك ترى من هذه الآيات الكريمة بيان تنوع المخلوقات، ولا شكَّ أن هذا التنوع يتنافى مع كون الأشياء نشأت من المنشئ كما ينشأ المعلول من العلة؛ لأن المعلول يجب أن يكون مماثلًا للعلة غير مختلف عنها، وهنا نجد اختلاف الموجودات من إنسان يتفكر ويتدبر، وحيوان ينعق، وطائر يطير، ومن شمس وقمر يسيران بحسبان.
فكان التنوع الذي ذكره القرآن إبطالًا لما يقرره اللفلاسفة من نظرية العلة والمعلول، والسبب والمسبب.
ضاق بهم مسلكهم، فلم يتصوروا غير ذلك، ولو نظروا إلى الكون وما يجري فيه من أحوال، لأدركوا بفطرتهم المستقيمة أنَّ المنشئ واحد أحد ليس بوالد ولا ولد، ولآمنوا بقوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} [الأنعام: 101] واقرأ قوله تعالى في التعريف بالذات الإلهية:
{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ، فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ، وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ، بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ، لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ، قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [الأنعام: 95 - 104].
انظر إلى تعريف الذات العلية، وما تنشئه في هذا الوجود، وإنَّ هذا يدل على الفاعل المختار دلالة قاطعة بتنوعه، واختلاف مظاهره، ونوع حياته، ألا تراه يسقى بماء واحد، وغذاؤه واحد، ومع ذلك تتنوع أنواعه، وتختلف أجزاؤه مما يدل على أنه نشأ بغير العلية، بل بإرادة مختارة حكيمة تفعل ما تريد، والله يخلق ما يشاء ويختار.
وإن القارئ للقرآن الحكيم يرى فيه قدرة الذات العلية، وإرادتها الخلق، والعقل لا يقبل غير ما جاء فيه، وما يسكله الفلاسفة من أوهام بالنسبة للسببية، يؤدي إلى التسلسل إلى ما لا نهاية، فإذا كان الموجود نشأ من موجود، فمم نشأ الموجود السابق، والسابق على السابق، ويتأدَّى إلى ما يستحيل العقل تصوره، وإذا كان هناك موجود تنتهي عنده السلسلة، فلماذا يفرض أنه الإله، ويفرض أنه وجد ما بعده من إرادته، لا بالعلية؟ واقرأ الآيات القرآنية في إثبات الوحدانية في الذات والصفات، وفي الخلق والإيجاد، وما ينجم عنهما من وحده المعبود بحق، فإنك واجد علمًا كثيرًا، يساير العقل ولا يعانده؛ لأنه الفطرة المستقيمة التي لم تفسدها نظرية السببية في المنشئ التي أخذوها من السببية في الأمور العادية، وفرق بين واجب الوجود الذي أنشأ الكون ودبره، وهو القيوم القائم عليه الذي قدَّر كل شيء تقديرًا، وبين توالد الأحداث، وهو لا تكونه بغير تقديره وتدبيره سبحانه وتعالى، إنه فعال لما يريد.
164 - وفي القرآن علم الرسالة الإلهية، والمعجزات التي اقترنت بها، فهو يبين أن الله سبحانه وتعالى - خلق الخلق، وخصَّ العالم الإنساني بالرسل يرسلهم إليه، ليسير الناس في الصلاح بدل أن يسيروا في الفساد، وليكونوا في مودَّة وسلام بدل أن يكونوا في حرب وخصام، وليصلوا ما أمر الله أن يوصل؛ لأن الله تعالى الذي خلق الإنسان جعله إمَّا شاكرًا وإما كفورًا، فهيَّأ للشاكر أسباب شكره، وجعل الكفور مسئولًا عن فعله بعد إنذغار المنذر وتبشير المبشر، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] وكما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] فما كانت هذه الرسالات الإلهية إلّا لتهدي الناس إلى خير الطرق، ومن يكفر فإنما يكون عن بينة لئلَّا يكون للناس على الله حجة.
والقرآن الكريم يبيِّن أنَّ الرسل يكونون من البشر، ومن أقوامهم ليكونوا أكثر إلفًا، وعندهم علم بهم، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] وقومه هم دعامته الأولى، فهم الذين يكونون القوة الأولى لدعوته، ويكون منهم الحواريون الذين يناصرونه ويرعونه حق رعايته.
وعندما طلب المشركون أن يكون الرسول ملكًا، ردَّ الله سبحانه وتعالى - عليهم بقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 8، 9].
وأنَّ الله تعالى صرَّح بأنَّ الرسالة للرسل لكي يقوم الناس بالحق والميزان، فقط قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25].
وفي هذا النص الكريم يبيِّن الله سبحانه وتعالى - أنَّ الرسل جاءوا بالكتاب من عنده سبحانه؛ ليقوم الناس بالقسط، ومن لم يقنعه الدليل، ولم يهتد بهداية الرحمن، وبمقتضى الفطرة المستقيمة، والإدراك السليم، فإنَّ الحديد فيه بأس شديد يقمعه من الشر، ويبعد عن الناس فساده وإفساده.
والآيات تفيد أيضًا أن الله سبحانه وتعالى - يبعث الرسل، ومعهم المعجزات الباهرات الخارقات للعادات التي تثبت أنَّهم جاءوا من عند الله تعالى، وأنهم لم يفتروا على الله الكذب، بل هم جاءوا برسالة ربهم، ويتحدَّون الناس أن يأتوا بمثلها، وهي خارقة لقانون الأسباب والمسببات، وهي فوق إثباتها لقدرة الله تعالى الفعال لما يريد تثبت رسالة الرسول التي جرت على يديه.
165 - والقرآن الكريم فيه علم المعجزات بجوار العلم برسالة الله تعالى لخلقه، ففيه معجزة نوح عليه السلام، وهي السفينة التي نجا فيها المؤمنون، وأغرق الله تعالى الكافرين، واقرأ قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ، وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ، وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ، حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ، وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ، وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ، قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ، وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود: 36 - 44].
هذه بينة من بينات الله تعالى تدل على اصطفائه لنوح أبي الإنسانية الثاني، وتدل أيضًا على أنَّ الله تعالى فاعل مختار، لا يتقيّد بالأسباب والمسببات التي نعرفها، بل هو القادر المريد المختار: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23].
وجاء هود عليه السلام إلى عاد فقاوموا دعوته، وناوءوا رسالته، وقالوا مفترين عليه كما حكى القرآن الكريم عنهم: {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ، إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [هود: 53، 54].
وقد كانت الآية عقابًا دمَّر الله عليهم بريح صرصر عاتية، وقال الله تعالى في هذه: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌفَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ، تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الأحقاف: 24، 25].
وقال الله تعالى في سورة الحاقة: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة: 6].
وقد أرسل الله تعالى صالحًا إلى ثمود، وقال الله تعالى فيهم: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ، قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ، قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ، وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ، فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ، فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ، وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ، كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ} [هود: 61 - 68].
ونجد من هذه النصوص الكريمة أنَّ معجزة صالح التي تحدَّى بها وكانت بها البينة على رسالته هي ناقة كان لها شرب، ولكل منهم شرب معلوم، وكان التحدي ليس بأن يأتوا بمثلها، ولكن كان التحدي بالهلاك إن مسّوها، فعقروها، فأنذرهم الرسول المتكلم عن ربه بأنَّ العذاب نازل بهم بعد ثلاثة أيام، وقد صدق الوعيد عليها.
166 - ولننتقل إلى المعجزة التي أجراها الله تعالى على يدي سيدنا لوط عليه السلام، لقد بعثه الله تعالى إلى قوم هبطوا في مفاسدهم إلى ما لم يهبط إليه الحيوان، فأفسدوا الفطرة، وجاءهم لوط بالطهر ليحملهم على العودة إلى الفطرة المستقيمة التي فطر الله الناس عليها، ولمَّا لم تجد معهم دعوة الإصلاح، بل استمروا في غيِّهم يعمهون، أمر الله تعالى نبيه أن يسري بأهله بقطع من الليل، واستثنى امرأته من أهله، فقد كانت على شركهم، وأنَّ موعد العذاب النازل بهم الصبح، أليس الصبح بقريب، فلمَّا جاء أمر الله تعالى جعل عاليها سافلها، وأمطر عليهم حجارة من سجيل منضود.
وكان يعاصر لوط إبراهيم أبو الأنبياء - عليهم السلام، ولذلك جاءت الملائكة التي ذهبت إلى لوط، وجعلت أرضهم عاليها سافلها، جاءوا لإبراهيم عليه السلام، وظهر معهم أمر خارق للعادة، وهو أن تحمل امرأته وهي عجوز، ولنتل الآيات الكريمات التي أثبتت هذه الحقائق.
{وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ، فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ، وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ، قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ، قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ، إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ، يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} [هود: 69 - 76].
ونرى أن خارقًا للعادة كان في أول لقاء بين إبراهيم خليل الله وبين ملائكته، وهو أن تحمل امرأة عجوز قد انقطع حيضها، من زوج عجوز.
وأنَّ الله أجرى على يد خليله إبراهيم معجزات كثيرة، منها مسألة الطير؛ إذ يقول الله تعالى في ذلك:
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260].
ومن أبرز ما أجرى الله على يديه من خوارق للعادات أنَّه ألقي في النار ليحرق فأطفأها العزيز الحكيم، واقرأ قوله تعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ، إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ، قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ، قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ، قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ، فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ، قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ، قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ، قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ، قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ، فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ، ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ، قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ، أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ، قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ لْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} [الأنبياء: 51 - 70].
وإنك لترى أنَّ خوارق العادات التي تنقض التزام الأسباب والمسببات التي تلزم البشر، ولكن قدرة الله وإرادته فوق ما عليه، وما يجري من أسباب ومسببات بينهم.
وكذلك الأمر بالنسبة لشعيب الذي دعا إلى مكارم الأخلاق، وحسن المعاملات الإنسانية؛ إذ يقول كما حكى القرآن الكريم عنه: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ، وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ، بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ، قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ، قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ، وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ، وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ، قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ، قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ، وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ، وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ، كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} [هود: 84 - 95].
ونرى من هذا أنَّ الأمر الخارق للعادة كان صيحة عليهم.
وأنّ الملاحظ أن الخوارق للعادة التي جاءت على يد الأنبياء الذين عاشوا في البلاد العربية كانت حسية مناسبة للعرب، وكانت من الناحية التي تناسب الصحراء، والبادية، فمعجزة هود كانت أحجارًا من سجيل منضود، وقد ظنّوه عارضًا ممطرًا، ومعجزة صالح كانت ناقة غريبة بين أهل النوق في البادية، ومعجزة لوط كانت جعل الأرض عاليها سافلها، ومعجزة شعيب كانت صيحة جعلتهم في ديارهم جاثمين.